Image default
Home » تمشاية في حلب
ذكريات

تمشاية في حلب

لطالما فكرت في مدينة حلب على أنّها ألف صفحة وصفحة من التّاريخ، إنّني لا أدّعي معرفة كلّ الّصفحات ولكن على الّرغم من ذلك، فإنّي أستطيع إبراز تعدّديّة المدينة وتنوّعها. أني لست بمؤرّخة، ولكنّني سوف أحاول أن أعطي صورةً دقيقةً قدرالإمكان.

خلال زيارتي لحلب في صيف عام ٢٠١٠، دعوت زوجي الأميركيّ المولد ليتنزه معي في شوارع المدينة، وبدأنا من بيتنا القديم الكائن في العزيزيّة، ذلك الحيّ القديم قرب القلعة.

كنّا نعيش قرب كنيسة اللاتين التي بناها البابا في أواخر القرن الثّامن عشر، حيث يُحتفل بالقداديس بالّلغتين العربيّة والّلاتينيّة وباللّغة الفرنسيّة في كثيٍر من الأحيان.
استيقظنا في صباح يوم الأحد على أصوات الأجراس وجهّزنا أنفسنا بسرعٍة، لنلحق بالكنائس الأخرى قبل الّظهيرة.
بنى حيّ العزيزيّة في أواخر القرن التّاسع عشر عائلاتٌ سوريّةٍ ثريّةٍ. كما أُسّست القنصليّة الفرنسية في عهد الانتداب الفرنسيّ في بيتٍ قديمٍ مجهّزٍ بفناءٍ دائريّ (للأسف هدم لاحقًا واستبدل بمجمّعٍ تجاريٍّ) على مقربة من بيتنا.

حيّ العزيزيّة حافظ على طعمه الفرنسيّ. أتذكر الآن كيف اعتدت على مقابلة أصدقائي في مخبزٍ فرنسيّ لنتذوق المعجنات الّلذيذة، لا زلت أذكر الرّائحة والعرض المغري لحلوى الإكلير.

كان هناك شارعٌ ضيّقٌ المفروش بأرضية من الحصى اللماع والمغسولة للتوّ قبالة بيتنا، بُني على الأغلب في عهد الإمبراطوريّة العثمانيّة، والّذي ما زالت شرفاته مغطاةً بخشبٍ مزخرفٍ ومصاريع مزيّنةٍ تدعى في العربيّة (كشك).
اعتدت عبور هذا الّشارع كلّ يومٍ في طريقي إلى الباص، حيث تركت الحصى أثرها على حذائي، الأمر الّذي أعجب الإسكافيّ. كم أشتاق لرؤية هذا الّشارع حيث أتذكّر كيف كنت أتخيل حياة الّناس الّذين يعيشون خلف تلك الّشرفات الخشبيّة.
وصلنا إلى التلل، وهي منطقةٌ مزدحمةٌ بالمتاجر والبائعين الجوّالين لمختلف البضائع وهم يروّجون لها بصوتهم العالي. كم مرة تسوّقت هناك وساومتهم. كان ذلك جزءا من متعة التسوق وجزءا من ثقافتنا.
مشينا في الّشارع الّضيق لنصل إلى ساحة فرحات بتمثالها المنتصب للأسقف جيرمون فرحات وحيث توجد كنيستان قديمتان تعودان إلى القرن التاسع عشر والّلتان بنيتا فوق كنائس من القرن الخامس عشر.


هذه هي المنطقة المسيحيّة القديمة من المدينة حيث يمكنك رؤية الياسمين، وأشجار الليمون والنافورة الّتقليديّة التي تتوسطها.
الكثير من هذه البيوت حوّلت إلى مطاعم أو محلات لملابس عصرية أو فنادق، أطيب أكلة “كباب بكرز” والّتي تشتهر بها حلب، تناولتها هناك، وصاحبت جلستنا موسيقا خرير مياه النافورة وشكّلت جزءًا من الّديكور.
دخلنا إلى الكنيسة المارونية معجبين بفنائها المفتوح حيث أقيمت الّصلوات هناك بالّلغة الآراميّة، الّلغة الّتي تكلّم بها عيسى، الّسيد المسيح، والّتي هي أصل الّلغات الساميّة.
الّلغة الآراميّة والّتي تدعى أيضًا بالّلغة السريانيّة هي الّلغة الّتي سمعتها عندما ذهبت إلى الكنيسة مع والدتي حيث تبادر إلى ذهني بوضوحٍ ترنيم الّشماس. كم وددّت أن أعود إلى تلك الأيام وأتعلم الّلغة الّسريانيّة.
ومن ثم توجّهنا نحو الكنيسة الكاثوليكيّة اليونانيّة، حيث عقد القداس بالّلغة اليونانيّة، متعنا نظرنا بالأيقونات وأقواسها المنقوشة المشهورة. عادت إلى ذهني ذكرى زواج أختي، حيث ارتدت تاجٍا ودارت به حول المذبح ٣ مراتٍ ، الأمر الذي بدا مضحكًا لي لأنّني كنت أخشى أن تُسقط الّتاج. عادت إليّ كلٌّ من رائحة البخور ومشهد عرسها حيًّا في ذهني مرةّ أخرى.
محطتنا الّتالية كانت الكنيسة الأرمنيّة. حيث مشينا عبر قوس بني في القرون الوسطى لنصل إلى الكنيسة الأرمنيّة الأرثوذكسيّة، وهي بيت عبادةٍ مؤثّر ومتواضعٍ حيث أحتفل بالقداديس بالّلغة الأرمنيّة، (وصل الأرمن إلى حلب بعد المجزرة الّتي حصلت في أوائل القرن العشرين والكثير منهم وصلوا قبل ذلك).
تعود الكنيسة إلى القرن الخامس عشر وهي تعرض بفخر لوحة عمرها ٤٠٠ عامٍ كثيرة الّتفاصيل. عرفتّني صديقتي الأرمنيّة على هذه الكنيسة وشرحت لي تلك الّلوحة. كم أتمنى رؤيتها مرةّ أخرى.

كلّ طقوس القربان المقدّس في هذه الكنائس تقام بالّلغة العربيّة أيضًا، حيث يتمّ التناوب بين الّلغتين. ما هذا المزيج الغنيّ من الطوائف ذات الجذور العميقة والقديمة في حلب.

وعندما غادرنا، كانت رائحة الطّعام الّلذيدة تزيد من شهيتنا، وكان قد شارف يومنا على الانتهاء عند وصولنا إلى ساحة الحطب الّتي تحتوي على العديد من المتاجر اليدويّة والمطاعم وواجهات المجوهرات المشغولة بدقّة، الّتي استبدلت المنطقة القديمة في طفولتي حيث كان الحطب السلعة الأولى الّتي كانت تباع هناك.
لازلت أذكر مذاق الّطعام الّذي تناولناه مع ابنة أختي في أحد هذه المطاعم العصرية: كباب، كبّة، حمص، تبولة، طراطور الدجاج وبالّتأكيد البقلاوة كطبق الّتحلية.
لا يمكنك إنهاء يوم واحد في حلب بدون تذوّق طعامها الّرائع والّلذيذ، لذا قررنا التنازل عن زيارة القلعة إلى يومٍ آخر، وزيارة العديد من الكنائس في الوقت نفسه.
في طريق عودتنا إلى المنزل، أقيم الآذان في جامعٍ قريبٍ وسط هدوء مساء الأحد، ونداء الصلاة هذا هو جزء من حياتي اليوميّة في حلب.

كم أفتقدك يا حلب.

كتابة: بولين سعادة أنتوني
ترجمة: هدى فنصة

مقالات ذات الصلة

Leave a Comment

* By using this form you agree with the storage and handling of your data by this website.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. قبول Read More